سورة الأنفال - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)}
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التي أنعم الله بها على أهل بدر، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} منصوب بإضمار اذكر، أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله: {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم.
المسألة الثانية: قال مجاهد: أرى الله النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه. فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، فصار ذلك سبباً لجراءتهم وقوة قلوبهم.
فإن قيل: رؤية الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك؟
قلنا: مذهبنا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأيضاً لعله تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون.
وعن الحسن: هذه الأراءة كانت في اليقظة. قال: والمراد من المنام العين التي هو موضع النوم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً} لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا ولتنازعوا، ومعنى التنازع في الأمر، الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه، والمعنى: لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم {ولكن الله سَلَّمَ} أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم. وقيل: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم، وقيل سلمهم من الهزيمة يوم بدر والأظهر أن المراد، ولكن الله سلمكم من التنازع {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.


{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من النعم التي أظهرها الله للمسلمين يوم بدر، والمراد أن القليل الذي حصل في النوم تأكد ذلك بحصوله في اليقظة.
قال صاحب الكشاف: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} الضميران مفعولان يعني إذ يبصركم أياهم، و{قَلِيلاً} نصب على الحال.
واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين، وقلل أيضاً عدد المؤمنين في أعين المشركين. والحكمة في التقليل الأول، تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً لتقوى قلوبهم وتزداد جراءتهم عليهم، والحكمة في التقليل.
الثاني: أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر، فصار ذلك سبباً لاستيلاء المؤمنين عليهم.
فإن قيل: كيف يجوز أن يريهم الكثير قليلاً؟
قلنا: أما على ما قلنا فذاك جائز، لأن الله تعالى خلق الإدراك في حق البعض دون البعض.
وأما المعتزلة فقالوا: لعل العين منعت من إدراك الكل، أو لعل الكثير منهم كانوا في غاية البعد فما حصلت رؤيتهم.
ثم قال: {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}.
فإن قيل: ذكر هذا الكلام في الآية المتقدمة، فكان ذكره هاهنا محض التكرار.
قلنا: المقصود من ذكره في الآية المتقدمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. والمقصود من ذكره هاهنا، ليس هو ذلك المعنى، بل المقصود أنه تعالى ذكر هاهنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين، فبين هاهنا أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر، فيصير ذلك سبباً لانكسارهم.
ثم قال: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} والغرض منه التنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب: الأول: الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي.
والثاني: أن يذكروا الله كثيراً، وفي تفسير هذا الذكر قولان:
القول الأول: أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله.
قال ابن عباس: أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم، تنبيهاً على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله، كان الذاكر لله أعظم أجراً.
والقول الثاني: أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر، لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وذلك لأن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جارياً مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى، وهذا هو أعظم مقامات العبودية، فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة، وإن صار مغلوباً فاز بالشهادة والدرجات العالية، أما إن كانت المقاتلة لا لله بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح.
فإن قيل: فهذه الآية توجب الثبات على كل حال، وهذا يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز.
قلنا: هذه الآية توجب الثبات في الجملة، والمراد من الثبات الجد في المحاربة. وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود، لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز.
ثم قال تعالى مؤكداً لذلك: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في سائر ما يأمر به، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات.
ثم قال: {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين: أحدهما: أنه يوجب حصول الفشل والضعف.
والثاني: قوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وفيه قولان: الأول: المراد بالريح الدولة، شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها. يقال: هبت رياح فلان، إذا دانت له الدولة ونفد أمره.
الثاني: أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور والقول الأول أقوى، لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثراً في ذهاب الريح، ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا.
قال مجاهد: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي نصرتكم، وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد.
المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: القول بالقياس يفضي إلى المنازعة، والمنازعة محرمة، فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراماً، بيان الملازمة المشاهدة، فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات، وبيان أن المنازعة محرمة. قوله: {وَلاَ تنازعوا} وأيضاً القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية.
وقالوا: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه، ثم أتبعه بأن قال: {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ} ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله. وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل، وكل ذلك حرام، ومثبتو القياس أجابوا عن الأول؛ بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة.
ثم قال تعالى: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر، فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} [آل عمران: 200] وبين أنه تعالى مع الصابرين، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة.


ثم قال: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَاء الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال المفسرون: المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير، فلما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني كان صديقاً لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبي ينعمك صباحاً ويقول لك إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت، فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيراً، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس، فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان، فإن بدراً موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة.
قال المفسرون: فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء: الأول: البطر قال الزجاج: البطر الطغيان في النعمة. والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر.
وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر.
والثاني: قوله: {وَرِئَاء الناس} والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحاً، والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية.
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما رآهم في موقف بدر قال: اللهم أن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك والثالث: قوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن.
وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون قوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} بمنزلة صادين.
والثاني: أن يكون قوله: {بَطَراً وَرِئَاء} بمنزلة يبطرون ويراؤن، وأقول: إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل، لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل، ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر، وعن الثالث بالفعل.
وأقول: إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث، قال ومثاله في الاسم قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة، ومثال الفعل قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} [يونس: 31] وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة، هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب، وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى محمد عليه الصلاة والسلام النبوة. ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم.
وحاصل الكلام: أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات؛ البطر والرئاء، بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله.
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق، وأمرهم بالعناء في طريق عبودية الحق، والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار، ثم ختم هذه الآية بقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والمقصود أن الإنسان ربما أظهر من نفسه أن الحامل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر كذلك في الحقيقة، فبين تعالى كونه عالماً بما في دواخل القلوب، وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12